مقدمة
لا يختلف البناء الفنّي لرسائل القالمي وابن محشرة عمّا
اعتاده كتّاب الإنشاء المغاربة والأندلسيّين في عهد الموحّدين، إذ نجدها تتشابه في
فواتحها وخواتمها، بل وفي عرض موضوعاتها، مع توظيف عبارات وألفاظ توارثها اللّاحق
عن السّابق، وسنقوم بدراسة ذلك انطلاقا من نماذج مختارة من رسائل الكاتبين،
والإشارة إلى مسألة الاقتباس والتّضمين.
أوّلا: الافتتاح
يذكر القلقشندي أنّ الرّسائل الصّادرة عن خلفاء
الموحّدين على أسلوبين: «الأسلوب الأوّل: أن تفتح المكاتبة بلفظ من فلان إلى فلان،
وكان الرّسم فيها أن يقال: من أمير المؤمنين فلان (ويدعى له بما يناسبه) إلى فلان (ويدعى له بما يليق به)، ثمّ يؤتى
بالسّلام، ثمّ يؤتى بالبعديّة والتّحميد، والصّلاة على النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، والتّرضية عن الصّحابة، ثمّ عن إمامهم
المهديّ[1]،
ثمّ يؤتى على المقصود ويختم بالسّلام والخطاب فيه بنون الجمع عن الخليفة، وميم
الجمع عن المكتوب إليه ... وأمّا الأسلوب الثّاني، فيجري مجرى الأوّل على أن
يفتتحه الكاتب بلفظ "أمّا بعد"»[2]
وهو ما ذهب إليه بعض الدّارسين المحدثين، أثناء
حديثهم عن فن الرّسائل في العهدين المرابطي
والموحّديّ، حيث يقول القيسيّ عن بناء الرّسالة المرابطيّة: «لم يحتفل
الكتّاب الأندلسيّون احتفال المشارقة بمطالع الرّسائل وخواتيمها، ولهذا اتّخذت في
بنائها شكلاً فنّيًّا جديداً ... فصارت رسائلهم - على اختلاف موضوعاتها وأغراضها
تخلو في الغالب من الاستفتاح المعروف، وتبدأ بالدّعاء للمرسل إليه، أو بالمنظوم أو
بالدّخول في الموضوع مباشرة ... ولا يجد الباحث لبعض الرّسائل مقدّمة أو تمهيداً،
وخاصّة في المراسلات بين المسيحيّين والصّليبيّين، وإنّما تقتصر على عبارة من فلان
إلى فلان»[3]
وإذا تأمّلنا رسائل القالميّ وابن محشرة من حيث
الفواتح نجدها تتضمّن العناصر الذي ذكرها القلقشندي، وفق الأمثلة الموالية:
الرّسالة الحادية والعشرون من مجموع الرّسائل الموحّديّة للقالميّ
|
ذكر المرسل والمرسل إليه |
من أمير المؤمنين – أيّده الله بنصره وأمدّه بمعونته –
إلى الطّلبة والشّيوخ والأعيان والكافّة من الموحّدين من أهل فاس – أعزّهم الله
بتقواه، وأدام كرامتكم بحسناه - |
|
البعديّة |
أمّا بعد |
|
التّحميد |
فالحمد لله الذي تمّم مقاصد أوليائه فيما اعتمدوه من
إقامة أمره الواجب ... |
|
الصّلاة على الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم |
والصّلاة على محمّد عبده ورسوله الحاشر العاقب،
الصّادع بنوره الثّاقب، لبابة الانتخاب، وسلالة الانتجاب ... وعلى آله وصحبه
أولي العزم ... |
الرّسالة الثّانية والعشرون من مجموع الرّسائل الموحّديّة للقالميّ،
وهي عن الخليفة عبد المؤمن ابن
علي مخبراً بهزيمة النّصارى في نواحي قرطبة، والملاحظ أنّها مبتورة لأنّها لا
تتضمّن المرسل والمرسل إليه، ولا عبارة
"أمّا بعد"
|
ذكر المرسل والمرسل إليه |
..................................... |
|
البعديّة |
.................................... |
|
التّحميد |
الحمد لله الذي قدّم لأوليائه أمره فيما يرومونه من
تدويخ العدوّ ... |
|
الصّلاة على الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم |
وصلّى الله على نبيّه المصطفى محمّد الهادي إلى سبل
السّلام ترغيباً وترهيباً؛ وعلى آله
وصحبه، ومن لبّ دعوته إلى ربّه سامعاً مجيباً |
الرّسالة السّابعة والعشرون من مجموع الرّسائل الموحّديّة لأبي الفضل ابن محشرة[4]
|
ذكر المرسل والمرسل إليه |
من الأمير يعقوب بن سيّدنا أمير المؤمنين بن سيّدنا
أمير المؤمنين - أيّدهم الله بنصره، وأمدّهم بمعونته - إلى الطّلبة والأشياخ
والأعيان والكافّة بغرناطة |
|
البعديّة |
أمّا بعد |
|
التّحميد |
فإنّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، ونشكره
على آلائه ونعمه |
|
الصّلاة على الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم |
ونصلّي على محمّد نبيّه المصطفى ورسوله ... |
الرّسالة الثّلاثون من مجموع الرّسائل الموحّديّة لابن محشرة
|
ذكر المرسل والمرسل إليه |
من أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين -
أيّدهم الله بنصره، وأمدّهم بمعونته - إلى الطّلبة والموحّدين والأشياخ والأعيان
والكافّة بمرّاكش |
|
البعديّة |
أمّا بعد |
|
التّحميد |
فإنّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، ونشكره
على آلائه ونعمه |
|
الصّلاة على الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم |
ونصلّي على سيّدنا محمّد نبيّه المصطفى ورسوله ... |
الرّسالة الثّالثة والثّلاثون من مجموع الرّسائل الموحّديّة لابن محشرة
|
ذكر المرسل والمرسل إليه |
من أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين -
أيّدهم الله بنصره، وأمدّهم بمعونته - إلى الطّلبة والموحّدين والأشياخ والأعيان
والكافّة بمرّاكش |
|
البعديّة |
أمّا بعد |
|
التّحميد |
فإنّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، ونشكره
على آلائه ونعمه |
|
الصّلاة على الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم |
ونصلّي على سيّدنا محمّد نبيّه المصطفى ورسوله ... |
ثانياً: العرض
العرض هو المقصود من الرّسالة، ويكون بعد الافتتاح وقبل الخاتمة، وفيه يقوم
الكاتب بتفصيل الموضوع المراد إيصاله إلى المرسل إليه، وهو يأخذ حيّزاً هامّا من
حجم الرّسالة، قد يكون بضع صفحات وقد يتعدّى ذلك – على حسب طبيعة الموضوع – وفيه
تظهر براعة الكاتب في الاقتباس والتّضمين، في الإيجاز والإطناب، في الإقناع والحجاج، وغير ذلك من الأساليب الأدبيّة التي
تميّز فن الرّسالة الدّيوانيّة.
ففي رسالة القالميّ (الرّسالة 21 من مجموع رسائل موحّديّة)، نجده يتحدّث
إلى طلبة فاس يعلمهم بهزيمة عرب إفريقية ودخولهم تحت طاعة الموحّدين، نجد العرض
يأخذ حيّزاً يمتدّ ضمن سبع صفحات (من 114 إلى 120)، وقد وظّف الكاتب العبارات
المألوفة: وإنّا كتبناه إليكم – كتبكم الله ممّن تعرّف آلاءه المستعادة –، وقد
كنّا - أعزّكم الله بتقواه - وفّقكم الله - ...
ولا تختلف الرّسالة الثّانية للكاتب نفسه (الرّسالة 22 من مجموع رسائل
موحّديّة)، عن سابقتها إلّا في الموضوع، فهي تتحدّث عن هزيمة النّصارى بنواحي
قرطبة، وفيها عبارات مثل: وإنّا كتبناه إليكم –كتبكم الله ممّن أحسن تلقّي
البشائر، ووفّى النّعمة حقّها من شكر الشّاكر –، وقد كان مقامنا بهذه الجزيرة - مهّدها الله - ولمّا اتّصل بنا نبؤهم الذّميم –
إخواننا وأشياخ الموحّدين - أعزّهم الله
-، - أعانهم الله -، وهذا الفتح - وفّقكم الله وأعانكم - الرّوم –
قصمهم الله - ..
وإذا كانت النماذج قليلة بالنّسبة لرسائل القالميّ، فإنّها أكثر نسبيّا
فيما يتعلّق بتلميذه ابن محشرة، وقد تعدّدت موضوعاتها وأحجامها، حيث أنّنا نجده
يكتب رسائل الجهاد، ورسائل البيعة، ورسائل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر،
وجميعها عن الخليفة يعقوب المنصور، باستثناء الرّسالة 26 عن سلفه ووالده يوسف بن
عبد المؤمن، وعلى العموم فهي لا تختلف في
أسلوبها عمّا ألفه كتّاب الإنشاء لدى المرابطين والموحّدين (إذا ما اعتبرنا أبا
جعفر بن عطيّة نموذجاً قلّده من جاء بعده من الكتّاب المترجم لهم آنفا، بما في ذلك القالمي وابن محشرة)
وإجمالاً، فإنّ ابن محشرة غالباً ما يوظّف العبارات
المألوفة: وكتابنا إليكم – كتب الله لكم ... – وقد انتهى إليكم – وفّقكم الله –
الموحّدون – أعزّهم الله – وكان ممّن حضر – وفّقكم الله وأكرمكم بتقواه – أدام
الله كرامتهم بتقواه، وعرّفهم عوارف نعماه ورحماه – من حضرة إشبيلية – حرسها الله –
وفّقكم الله وسدّدكم – أيّدكم الله بنصره – أعلى الله أمره، وأعزّ نصره – وفّقكم
الله وأعانكم على اكتساب رضاه – وقد علمتم ... أنجدهم الله ...
ثالثاً: الختام
اهتمّ كتّاب الإنشاء في الدّولة الموحّديّة بخواتم
الرّسائل اهتمامهم بافتتاحياتها، فبعد عرض الموضوع وتفصيله بما يمكّن المتلقّي من
فهمه على الوجه المراد، ينتقل الكاتب إلى الخاتمة، وهي عادة ما تكون نصحاً أو
توجيها، أو دعاءً، أو غير ذلك ممّا العبارات المؤكّدة للعواطف والأفكار التي جاءت
في صلب الرّسالة، ومن صور الختام في رسائل القالمي وابن محشرة نذكر:
- فبشراكم اليوم بشراكم وما أحلقكم
به وأجراكم، فاشرحوا - اعزّكم الله -
صدوركم، وأقيموا بهذه البشائر أموركم،
وأشعروا بها جمهوركم، وأعقدوا بإهدائها
جذلكم وسروركم، والله تعالى يجعلكم ممّن اعتمد النّعم ببشكرها، ووفّاها
واجب قدرها، وارتبط كرائمها بمواصلة ذكرها، إن شاء الله، والسّلام عليكم ورحمة
الله وبركاته[5]
- والله تعالى يشفعه بأمثاله، ويردفه
بمنهل الفتح ومثاله ويتولّى توفيقكم لما يحبّ ويرضاه، وعونكم لما يزلف لديه في
أخراه، بمنّه ويمنه.[6]
- والله يوليكم من رحمته ونعمته، ما
يعمّ به ملأكم، ويكرم به متبوّأكم، بمنه، لا ربّ غيره وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسّلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.[7]
- أدام الله كرامتكم بتقواه – استدعت
هذه الحالة التي عرّفتم بها أن يزاد في الخطبة الزّيادة التي اشتمل المدرج في طيّ
هذا الكتاب؛ فضعوها في موضعها منه، واكتبوا بنسخها إلى جميع جهاتكم إن شاء الله،
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.[8]
- والله يوفّقكم من ذلك إلّا يقتضي
نجاح إيرادكم وإصداركم، بمنّه وكرمه، لا ربّ غيره، والسّلام العميم عليكم ورحمة
الله تعالى وبركاته.[9]
- وعرّفناكم - وفّقكم الله - بهذه
الفتوح الجمّة التي عظمت قدراً، وأعجزت حمداً
وشكراً، وخرقت العوائد تسهّلاً غريباً
ويسراً، لتضربوا بقداح المساهمة فيها، وتذيعوها في أداني جهاتكم وأقاصيها،
وتجدّدوا حمد مخوّلها – جلّت - ومولّيها،
وتقوموا بالواجب من شكر مسبّبها سبحانه
ومسنّيها؛ والله تعالى يعينكم من ذلك على ما يتكفّل لكم بتضاعف نعمه عليكم وتواليها، بمنّه وجوده، لا ربّ غيره، والسّلام
عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.[10]
- والله تعالى يحوط الكافّة بنظر هذا
الأمر الشّامل الكامل، لا ربّ غيره، والسّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.[11]
- والله يعينكم من موالاة حمده، على
ما يجزل حظوظكم من رفده، ويهديكم إلى اتّباع سبيل رضاه وانتهاج قصده، بكرمه وجوده
ومجده؛ لا ربّ غيره، والسّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.[12]
-
وعرّفناكم - وفّقكم الله – بهذه المسرّات الكُبر،
والآيات الواضحة الحُجول والغرر، لتأخذوا بحظّكم من سرورها، وتفيضوا بقدحكم من
حمدها وشكورها، وتشاركوا بشكرها ونشرها في جسيم حظوظها وكريم أجورها؛ والله يجعلكم
من المتحدّثين بنعمه، الشّاكرين لآلائه وقسمه، المستمدّين بحمده سبحانه درور جوده
وكرمه، بمنّه وفضله، لا ربّ غيره، والسّلام الكريم عليكم ورحمة الله تعالى
وبركاته.[13]
الهوامش والإحالات
[1] - تشترك جميع
الرّسائل الموحّديّة في ذكر العبارة: "والرّضا عن الإمام المعصوم المهديّ
المعلوم"، كما أنّ العلامة السّلطانيّة: "والحمد لله وحده" قد
اتّخذها الخلفاء الموحّدون شعاراً لكتبهم الرّسميّة، لمّا وجدوها في بعض خطابات
ابن تومرت. ويذكر في هذا الصّدد أبيات للشّاعرة حفصة بنت الحاج الرّكونيّة تمدح
بها عبد المؤمن بن عليّ:
يَا سَيِّدَ النّاسِ يَا مَنْ يُؤْمِلُ النَّاسُ رَفْدَهْ
امْنُنْ عَلَيَّ بِصَكٍّ يَكُونُ لِلدَّهْرِ عُدَّهْ
تَخُطُّ يُمْنَاكَ فِيهِ وَالْحَمْدُ لله وَحْدَهْ
[2] - القلقشندي، صبح
الأعشى، 6/432.
[3] - القيسيّ فايز، أدب الرّسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجريّ، دار التّبشير للنّشر والتّوزيع، عمّان، ط1، 1989، ص: 315.
[4] - ما يمكن ملاحظته
في رسائل ابن محشرة تشابهها في الافتتاح، يظهر ذلك من خلال الأمثلة المذكورة.
[5] - القالمي، ضمن
مجموع رسائل موحّديّة، الرّسالة الحادية والعشرون، ص: 120.
[6] - الرّسالة الثّانية والعشرون، ص: 126.
[7] - ابن محشرة، الرّسالة السّادسة والعشرون، ص: 157.
[8] - ابن محشرة، الرّسالة السّابعة والعشرون، ص: 163.
[9] - ابن
محشرة، الرّسالة التّاسعة والعشرون، ص: 180.
[10] - ابن
محشرة، الرّسالة الحادية والثّلاثون، ص: 199.
[11] - ابن
محشرة، الرّسالة الثّانية والثّلاثون، ص: 210.
[12] - ابن
محشرة، الرّسالة الثّالثة والثّلاثون، ص: 218.
[13] - ابن
محشرة، الرّسالة الرّابعة والثّلاثون، ص: 228.