JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

مسألة ابن عطيّة بين المقري والفكون

 سؤال ابن باديس عن المسألة:



قبل الدخول في نصّ المسألة لابدّ من الإشارة إلى أنّ عائلة ابن باديس مشهورة في قسنطينة، وقد ترجم الفكّون في منشور الهداية لبعض الباديسيّين وهم على التّوالي القاضي الخطيب أبو العبّاس أحمد (حميدة) بن باديس الذي وصفه بقوله: «وهو من بيتات قسنطينة وأشرافها، وممّن له الرّياسة والقضاء والإمامة بجامع قصبتها، وخلف سلفٍ صالحين علماء حازوا قصب السّبق في الدّراية والمعرفة والولاية، وناهيك بهم من دار صلاح وعلم وعمل، وكيف وصاحب السّينيّة وشرح مختصر ابن هشام ينبئك عمّا لصاحبها من كمال المعرفة والفطنة» (الفكون، 1987، ص 57) ومن الواضح أن الفكّون سمع بأحمد المذكور ولم يلتق به، لأنّ هذا الأخير توفّي سنة 969ه/1561م

 ويحيى ابن باديس ابن السّابق، وقد التقاه عبد الكريم الفكّون وترجم له، وذكر أنّه كان صديقا لجدّه لأمّه قاسم الفكّون، وتولّى منصب باش عدل في قسنطينة، يقول في ترجمته: «وممّن لقيناه الفقيه أبو زكريّاء يحيى ... كان – رحمه الله – حييّا ذا خلق حسن، كثير المداعبة والهشاشة، كثير التّواضع للصّغير والكبير والرّفيع والحقير، سالم الصّدر من نفاق أهل عصره، كثير القراءة لدلائل الخيرات»[1]

أمّا الثّالث والرّابع فهما ولدا يحيى المذكور، محمّد وحميدة بن باديس، والذي يهمّنا هنا هو محمّد، ذلك أنّه هو من ذكر المسألة النّحويّة  وطلب الجواب عنها سواء من الفّكون أو من المقّريّ ومن المعلوم أنّ محمّدا ابن باديس قرأ على الفكّون بعد ارتحال الشّيخ التّواتي عن قسنطينة (حوالي 1023ه)، وأصبح من أكابر موثّقي البلد، وقد التقى بأحمد المقّري في مصر وجاء بأخباره إلى شيخه الفكّون، وفي منشور الهداية نماذج من مراسلات الفكّون والمقّريّ ليس هذا محلّ دراستها.

وبالنسبة للمسألة المذكورة، فقد جاء في منشور الهداية ما نصّه: «وكثيرا ما يكاتبني بالمسائل وأجيبه عنها، وكتب لي مرّة إشكال ما وقع لابن عطيّة في إعراب )وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ( (البقرة: 150)، فأجبته عنه، فاتّفق أن رفعه معه لمصر وعرضه على أبي العبّاس أحمد المقّريّ يطلبه في الجواب، وما أنصف – وفّقه الله – وأجاب بما سنذكره بعد – إن شاء الله -»[2]

أمّا نصّ السّؤال الذي رفعه ابن باديس إلى الفكّون (وهو في قسنطينة) ثمّ إلى المقّريّ (وهو في مصر) فهو قوله: «سيّدي، بلّغكم الله الآمال، ونفعكم بصالح الأعمال، واذهب عنكم ما تجدونه ىفي انفسكم من الآلام (يشير إلى المرض الذي أصاب الفكّون حوالي 1025ه) وعافاكم من جميع الأسقام، المقصود منكم الإفادة فيما عرض لنا من الإشكال في مسألة، وهي ما أعربه الشّيخ ابن عطيّة في قوله تعالى: )وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ(، ونصّه: ولأتمّ: عطف على قوله: ليلاً، وقيل هو مقطوع في موضع رفع بالابتداء، والخبر مضمر بعد ذلك، التّقدير: لأتمّ نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ونحوه، هذا إعرابه، وتبعه عليه صاحب الجواهر (يقصد الثّعالبي)»[3]

جواب الفكّون عن المسألة:

أورد ابن باديس بعد سؤاله المذكور رأيه فيما ذكره ابن عطيّة والصّفاقسي شارح الشّاطبيّة، حول المسالة، وأنّه غير مقتنع بذلك، حيث أورد "ابن عطية" في "المحرر الوجيز" في تفسير الآية 150 من سورة البقرة )وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ما يلي: «وقوله تعالى )فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي( الآية، تحقير لشأنهم وأمر بإطراح أمرهم ومراعاة أمره، وقوله )وَلِأُتِمَّ( عطف على قوله )لِئَلَّا(، وقيل: هو مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر بعد ذاك، والتّقدير لأتمّ نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ونحوه»[4]

وما يهمّنا هنا هو رأي الفكّون صاحب منشور الهداية، الذي خاطبه ابن باديس بقوله: «ويظهر في إعرابه وجه آخر لا أدري هل تجيزه لي أم لا، وهو أن يكون متعلّقا ب"يهتدون"، فإن اقتضاه المعنى فهو صحيح من جهة التّعلّق على ما يظهر لي بفهمي القاصر، جوابكم الكافي ونقلكم الوافي، والله الشّافي، تؤجرون وترحمون، والسّلام عليكم ورحمة الله»[5]

ومن الواضح أن الفكّون قد بذل جهدا كبيراً في الرد ابن باديس ليس لكونه عاجزا عن الإجابة، بل لكون المرض لازال ملازما له، وهو المرض الذي دعاه على تألّيف ديوان في المديح النّبويّ على حروف المعجم (ذكر منه العيّاشي في رحلته أربع قصائد في كل منها خمس وعشرون بيتا)، وهذا طرف من نصّ الفكّون: «فاعلم أنّ ظاهر ما نقلتموه عن ابن عطيّة وتابعه (الثّعالبي) مقتض لما فهمتموه، وهو غير جار على القواعد إذ المبتدأ هو الاسم أو ما في تأويله معرّى عن العوامل اللّفظيّة غير الزّائدة الخ ما رسموه به، وهذا – وإن صحّت اسميته بالتّأويل – فهو معمول لعامل لفظي وادعاء زيادته غير صحيح، ثمّ تقدير الخبر عنه بما قدّره لا يلائم المبتدأ بعد السّبك لنبوّه عنه، والظّنّ بابن عطيّة انّه لم يرد هذا الظّاهر من الكلام، وإنّما التّأويل فيه أنّه قصد بالابتدائية ابتداء الكلام على معنى أنّه لا تعلّق له بما قبله، كما هو في الإعراب الأوّل، وقصد بالخبر خبر الكلام في المعنى، بمعنى أنّه تمام فائدته هو ذاك ...»[6]

جواب المقّري عن المسألة:

أحببنا الإشارة هنا إلى جواب أبي العبّاس المقّريّ عن المسألة لسببين جوهريّين، أوّلهما كون الجواب مذكوراً في منشور الهداية، وناقله هو الفكون نفسه، وثانيهما صبغة التّهكّم التي فهمها الفكّون من جواب المقّريّ (الذي لا نعلم نيّته بالضّبط)، وستتّضح الرؤيا عند ذكر مقطع من الجواب، ومن الواضح أنّ المقّري يشيد بعلم الفكّون، كيف لا وقد ذكره في مؤلّفه الجليل "نفح الطّيب"، ووصفه بقوله: «ومنها كتاب وافاني من علم قسمطينة وصالحها وكبيرها ومفتيها، سلالة العلماء الأكابر، ووارث المجد كابرا عن كابر، المؤلف العلامة، سيدي الشيخ عبد الكريم الفكون - حفظه الله -»[7]

وقد أشار الفكّون في منشور الهداية إلى أنّه ينوي شرح منظومة المقّريّ المسمّاة "إضاءة الدّجنّة في عقائد أهل الملّة" ولا ندري هل أسعفه الحظّ في ذلك أم لا، وهذا نصّ الجواب الذي كتبه المقّري لابن باديس بعد اطّلاعه على جواب الفكّون:

«الحمد لله وحده، صلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم، لما دخلت من أبواب ما بمحوله من الجواب، وأمعنت النّظر في وصف بانيه الرّافل في أثواب حلل الصّواب، ألفيته والله مبنيا على قواعد التّحرير، منميا إلى مقاصد التّحرير، دالّا على تبحّر صاحبه في الفنون، وتصديقه في علماء قطر المغرب الظّنون، فلو رآه "ابن قنبر" و"الخليل" لاعترفا بأن فيه "شفاء الغليل"، أو "الأخفش" لأبصر، ونكص عن معارضته واقصر، أو "الجرمي" و"الفرّا" لتكعكعا من مباراته وفرّا، أو "الزجاج" لكسر قوارير تحقيقه، أو "الفارسي" لترجّل عن أفراس تدقيقه، أو "المازنيّ" لعثر به على خبايا "الكتاب"، ولم يكن بالملوم، وتخلّص من قصة مصاب ظلوم، أو أبو علي الشلوبين لاكتسى بسببه حلل الفراسة، أو "ابن خروف" لأطاب وما أطال في الشرح مراسه، أو "الآبدي" لتاب دبه ما خشي اندراسه، أو "أبو موسى" لوشح به "الكراسة"، أو "ابن الضايع" لوجد لقطة البضائع، أو "ابن عطية" لقضى من أسرار العربية أوطاره، أو "ابن عصفور" لفاز بالحظ الموفور الذي أعيى مطاره ...»[8]

فمن خلال ما سبق نستشفّ أنّ المقّريّ أراد ممازحة صديقه الفكّون ببعض العبارات المسجوعة والمعروفة لدى أصحاب المدرسة الأندلسيّة، الذين افتتنوا بالتّزويق في الألفاظ والعبارات، غير أنّ الفكّون المعروف بالجدّ والصّرامة، والذي أنهكه المرض فترة ليست بالقصيرة، استثقل الجواب المذكور، وشعر بأنّ المقّريّ يحطّ من قيمته لدى "ابن باديس"، وهذا ما جعله يردّ ردّا قاسيا وينقد طريقته في الجواب، بل وأضاف إلى ذلك جوابا شبيها بجواب المقّريّ، ولا ندري هل اطّلع هذا الأخير على ذلك كلّه أم لا، وعلى العموم فإنّ الأبيات التي ذكرها الفكّون قد ضمّنها المقّري مؤلّفه المذكور. ومما يؤكد طابع المزاح ما قاله المقري في حق عبد الكريم الفكون، وذلك في قوله في تتمّة الجواب عن المسألة المذكورة: «وبالجملة فهو العالم الذي ورث المجد لا عن كلالة، وتحقق الكل أن بيته شهير الجلالة، بيت بني [لفكون] هضاب العلم والوقار والسكون، لازال الخلف منهم يحيون مآثر السلف[9].

وفي حقيقة الأمر أن المقّريّ لم يجب عن المسألة إجابة واضحة، غير أنّه يؤيّد ما ذكره الفكّون في جوابه المذكور ولا يعقّب عليه إلّا بتلك العبارات المذكورة آنفاً من قبيل الممازحة لا أكثر، والدّليل على تأييد المقّري لجواب الفكّون قوله في ختام الرّسالة المذكورة، وهي قوله: «وهذا الجواب منّي وغن كان كالصّدى، فلا مندوحة عنه لمن بلغ الإنصاف مرصداً، وحسب الواقف على جواب العالم المذكور اقتفاء أثره، والاستضاءة بنور شمسه وقمره، وقد خططت هذه الحروف عند قدومي من الحجاز الشّريف مع اشتغالي بالسّلام، وأجدر أن يرتفع بها عنّي إن أخطأت الملام، والله يجعلنا ممّن نظر إليه الواقف بالعين الكليلة، وجعل بعون الله في التّدبّر الختم دليله، انتهى»[10]

الهوامش والإحالات



[1] - منشور الهداية، ص: 68.

[2] - منشور الهداية، ص: 210.

[3] - منشور الهداية، ص: 227.

[4] - ابن عطيّة، تفسير، 1/226.

[5] - منشور الهداية، ص: 228.

[6] - منشور الهداية، ص: 228.

[7] - المقّريّ، نفح الطّيب، 2/480.

[8] - منشور الهداية، ص: 230.

[9] - الفكون، 1987، ص 231

[10] - منشور الهداية، ص: 231-232.

author-img

تاريخ الجزائر الثقافي وآدابها

Kommentare
Keine Kommentare
Kommentar veröffentlichen
    NameE-MailNachricht